فصل: تفسير الآية رقم (33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآية رقم (33):

{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)}
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا موالي} الآية: في معناه وجهان؛ أحدهما: لكل شيء من الأموال جعلنا موالي يرثونه، فمما ترك على هذا بيان لكل، والآخر: لكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، فمما ترك على هذا: يتعلق بفعل مضمر، والموالي: هنا الورثة والعصبة {والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} اختلف؛ هل هي منسوخة أو محكمة؟ فالذين قالوا إنها منسوخة قالوا: معناها الميراث بالحلف الذي كان في الجاهلية، وقيل: بالمؤاخاة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، ثم نسخها: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فصار الميراث للأقارب. والذين قالوا إنها محكمة؛ اختلفوا، فقال ابن عباس: هي المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث به، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وأن الرجلين إذا والى أحدهما الآخر، على أن يتوارثا صح ذلك، وإن لم تكن بينهما قرابة.

.تفسير الآية رقم (34):

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)}
{الرجال قوامون عَلَى النسآء} قوّام بناء مبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء {بِمَا فَضَّلَ الله} الباء للتعليل، وما مصدرية، والتفضيل بالإمامة والجهاد، وملك الطلاق وكمال العقل وغير ذلك {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ} هو الصداق والنفقة المستمرة {فالصالحات قانتات} أي النساء الصالحات في دينهن مطيعات لأزواجهن، أو مطيعة لله في حق أزواجهن {حافظات لِّلْغَيْبِ} أي تحفظ كل ما غاب عن علم زوجها، فيدخل في ذلك صيانة نفسها، وحفظ ماله وبيته وحفظ أسراره {بِمَا حَفِظَ الله} أي بحفظ الله ورعايته، أو بأمره للنساء أن يطعن الزوج ويحفظنه، فما مصدرية أو بمعنى الذي {واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} قيل: الخوف هنا اليقين {فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن} هذه أنواع من تأديب المرأة إذا نشزت على زوجها وهي على مراتب: بالوعظ في النشوز بوجه من التأديب: لم يتعد إلى ما بعده، والهجران هنا هو ترك مضاجعتها، وقيل: ترك الجماع إذا ضاجعها، والضرب غير مبرح {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي أطاعت المرأة زوجها فليس له أن يؤذيها بهجران ولا ضرب.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الشقاق الشر والعداوة، وكان الأصل إن خفتم شقاق بينهما، ثم أضيف الظرف إلى الشقاق على طريق الاتساع لقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33] وأصله: مكر بالليل والنهار {فابعثوا حَكَماً} الآية. ذكر تعالى الحكم في نشوز المرأة، والحكم في طاعتها، ثم ذكر هنا حالة أخرى، وهي ما إذا ساء ما بين الزوجين ولم يقدر على الإصلاح بينهما، ولا عُلم من الظالم منهما. فيبعث حكمان مسلمان لينظرا في أمرهما. وينفذ ما ظهر لهما من تطليق وخلع من غير إذن الزوج، وقال أبو حنيفة: ليس لهما الفراق إلا إن جُعل لهما، وإن اختلفا لم يلزم شيء إلا باتفاقهما ومشهور مذهب مالك: أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل: يبعثهما الزوجان، وجرت عادة القضاة في زمن المؤلف أن يبعثوا امرأة أمينة، ولا يبعثوا حكمين، قال بعض العلماء: هذا تغيير لحكم القرآن والسنة الجارية {مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} يجوز في المذاهب أن يكون الحكمان من غير أهل الزوجين، والأكمل أن يكونا من أهلهما كما ذكر الله {إِن يُرِيدَآ إصلاحا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} الضمير في يريدا للحكمين، وفي بينهما للزوجين على الأظهر، وقيل: الضميران للزوجين، وقيل: للحكمين.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}
{والجار ذِي القربى والجار الجنب} قال ابن عباس: الجار ذي القربى هو القريب النسب، والجار الجنب هو الأجنبي، وقيل: ذي القربى القريب المسكن منك، والجنب البعيد المسكن عنك، وحد الجوار عند بعضهم: أربعون ذراعاً من كل ناحية {والصاحب بالجنب} قال ابن عباس: الرفيق في السعي، وقال عليّ بن أبي طالب: الزوجة {مُخْتَالاً} اسم فاعل وزنه مفتعل من الخيلاء، وهو الكبر وإعجاب المرء بنفسه {فَخُوراً} شديد الفخر.

.تفسير الآية رقم (37):

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)}
{الذين يَبْخَلُونَ} بدل من قوله مختالاً أو نصب على الذم أو دفع بخبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره يعذبون، والآية في اليهود: نزلت في قوم منهم كحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم في الجهاد والصدقات. وهي مع ذلك عامة في من فعل هذه الأفعال من المسلمين.

.تفسير الآية رقم (38):

{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)}
{والذين يُنْفِقُونَ} عطف على الذين يبخلون، وقيل على الكافرين، والآية في المنافقين الذين كانوا ينفقون في الزكاة والجهاد رياء ومصانعة، وقيل: في اليهود، وقيل: في مشركي مكة الذين أنفقوا أموالهم في حرب المسلمين {قِرِيناً} أي ملازماً له يغويه.

.تفسير الآيات (39- 40):

{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر} الآية: استدعاء لهم كملاطفة أو توبيخ على ترك الإيمان والإنفاق، كأنه يقول أي مضرة عليهم في ذلك {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي وزنها، وهي النملة الصغيرة، وذلك تمثيل بالقليل تنبيهاً على الكثير {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} بالرفع فاعل، وتك تامة، وبالنصب خبر على أنها ناقصة واسمها مضمر فيها {يضاعفها} أي يكثرها واحد البر بعشر إلى سبعمائة أو أكثر {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} أي من عنده تفضلاً وزيادة على ثواب العمل.

.تفسير الآيات (41- 42):

{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} تقديره: كيف يكون الحال إذا جئنا {بِشَهِيدٍ} هو نبيهم يشهد عليهم بأعمالهم {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} أي تشهد على قومك، ولما قرأ ابن مسعود هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} أي يتمنون أن يدفنوا فيها، ثم تسوّى بهم كما تسوّى بالموتى وقيل: يتمنون أن يكونوا سواء مع الأرض كقوله: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [عم: 40] وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} استئناف إخبار أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئاً فإن قيل: كيف هذا مع قولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الكتم لا ينفعهم لأنهم إذا كتموا تنطق جوارحهم، فكأنهم لم يكتموا، والآخر: أنهم طوائف مختلفة، ولهم أوقات مختلفة، وقيل إن قوله: ولا يكتمون عطف على تسوّى: أي يتمنون أن لا يكتموا لأنهم إذا كتموا افتضحوا.

.تفسير الآية رقم (43):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}
{لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى} سببها أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها، ثم قاموا إلى الصلاة وأمّهم أحدهم فخلط في القراءة فمعناها النهي عن الصلاة في حال السكر. قال بعض الناس: هي منسوخة بتحريم الخمر، وذلك لا يلزم لأنها ليس فيها ما يقتضي إباحة الخمر، إنما هي نهي عن الصلاة في حال السكر، وذلك الحكم الثابت في حين إباحة الخمر وفي حين تحريمها، وقال بعضهم: معناها؛ لا يكن منكم سكر يمنع قرب الصلاة، إذ المرء مأمور بالصلاة فكأنها تقتضي النهي عن السكر عن سببه وهو الشرب، وهذا بعيد من مقتضى اللفظ {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} حتى تعود إليكم عقولكم فتعلمون ما تقرؤون، ويظهر من هذا أن السكر أن لا يعلم ما يقول؛ فأخذ بعض الناس من ذلك أن السكران لا يلزم طلاقه ولا إقراره {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} عطف ولا جنباً على موضع وأنتم سكارى، إذ هو في موضع الحال والجنب هنا غير الطاهر بإنزال إو إيلاج؛ وهو واقع على جماعة بدليل استثناء الجمع منه. واختلف في عابري سبيل فقيل: إنه المسافر، ومعنى الآية على هذا: نهى أن يقرب الصلاة وهو جنب إلاّ في السفر فيصلي بالتيمم دون اغتسال، فمقتضى الآية. إباحة التيمم للجنب في السفر، ويؤخذ إباحة التيمم للجنب في الحضر من الحديث، وقيل: عابر السبيل المارّ في المسجد، والصلاة هنا يراد يها المسجد، لأنه موضع الصلاة فمعنى الآية على هذا: النهي أن المسجد، ولا يجوز له أن يقعد فيه، ومنع مالك: المرور والقعود، وأجازهما داود الظاهري {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ} الآية سببها عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع فأبيح لهم التيمم لعدم الماء، ثم إن عدم الماء على ثلاثة أوجه: أحدها: عدمه في السفر، والثاني: عدمه في المرض، فيججوز التيمم في هذين الوجهين بإجماع، لأن الآية نص في المرض والسفر إذا عدم الماء فيهما، لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ} ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً}. الوجه الثالث: عدم الماء في الحضر دون مرض، فاختلف الفقهاء فيه، فمذهب أبو حنيفة أنه لا يجوز فيه التيمم، لأن ظاهر الآية أن عدم الماء إنما يعتبر مع المرض أو السفر، ومذهب مالك والشافعي: أنه يجوز فيه التيمم فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه فيؤخذ جوازه من السنة. وإن قلنا: إن الآية تقتضيه، فيؤخذ جوازه منها، وهذا هو الأرجح إن شاء الله، وذلك أنه ذكر في أول الآية المرض والسفر، ثم ذكر الإحداث دون مرض ولا سفر، ثم قال بعد ذلك كله: فلم تجدوا ماء فيرجع قوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً} إلى المرض وإلى السفر وإلى من أحدث في غير مرض ولا سفر فيجوز التيمم على هذا لمن عدم الماء في غير مرض ولا سفر، فيكون في الاية حجة لمالك والشافعي، ويجوز التيمم أيضاً في مذهب مالك للمريض إذا وجد الماء، ولم يقدر على استعماله لضرر بدنه، فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه، فيؤخذ جوازه من السنة، وإن قلنا إن السنة تقتضيه، فيؤخذ جوازه منها على أن يتناول قوله إن كنتم مرضى أن معناه مرضى لا تقدرون على مس الماء، وحدّ المرض الذي يجوز فيه التيمم عند مالك هو: أن يخاف الموت أو زيادة المرض أو تأخر البرء، وعند الشافعي: خوف الموت لا غير، وحدّ السفر: الغيبة عن الحضر سواء، كان مما تقصر فيه الصلاة أم لا {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ} في أو هنا تأويلان: أحدهما: أن تكون للتفصيل والتنويع على بابها، والآخر: أنها بمعنى الواو، فعلى القول بأنها على بابها يكون قوله: فلم تجدوا ماء راجعاً إلى المريض والمسافر، وإلى من جاء من الغائط، وإلى من لامس، سواء كانا مريضين أو مسافرين، أو حسبما ذكرنا قبل هذا، فيقتضي لك جواز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء وهو مذهب مالك والشافعي فيكون في الآية حجة لهما وعلى القول بأنها بمعنى الواو يكون قوله فلم تجدوا ماء.
راجعاً إلى المريض والمسافر فيقتضي ذلك أنه لا يجوز التيمم إلا في المرض والسفر مع عدم الماء وأنه لا يجوز للحاضر الصحيح إذا عدم الماء، ولكن يؤخذ جواز التيمم له من موضع آخر، والراجح أن تكون أو على بابها لوجهين؛ أحدهما أن جعلها بمعنى الواو إخراج لها عن أصلها وذلك ضعيف، والآخر إن كانت على بابها: كان فيها فائدة إباحة التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء على ما ظهر لنا فيها، وإذا كانت بمعنى الواو لم تعط هذه الفائدة، وحجة من جعلها بمعنى الواو انه لو جعلها على بابها لاقتضى المعنى الواو ولم تعط هذه الفائدة، وحجة من جعلها بمعنى الواز أنه لو جعلها على بابها لاقتضى المعنى أن المرض والسفر حدث يوجب الوضوء كالغائط لعطفه عليها. وهذا لا يلزم، لأن العطف بأو هنا للتنويع والتفصيل. ومعنى الآية كأنه قال: يجوز لكم التيمم إذا لم تجدوا ماء إن كنتم مرضى أو على سفر، وأحدثتم في غير مرض ولا سفر {الغآئط} أصله المكان المنخفض، وهو هنا كناية عن الحدث الخارج من المخرجين، وهو العذرة، والريح، والبول، لأن من ذهب إلى الغائط يكون منه هذه الأحداث الثلاث، وقيل: إنما هو كناية عن العذرة، وأما البول والريح، فيؤخذ وجوب الوضوء لهما من السنة، وكذلك الودي والمذي.
{أَوْ لامستم النسآء} اختلف في المراد بالملامسة هنا على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها الجماع وما دونه من التقبيل واللمس باليد وغيرها، وهو قول مالك، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس الذي هو دون الجماع على تفصيل في المذهب، ويجب معه التيمم إذا عدم الماء، ويكون الجنب من أهل التيمم، والقول الثاني: أنها ما دون الجماع، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس، ولا يجوز التيمم للجنب، وقد قال بذلك عمر بن الخطاب.
ويؤخذ جوازه من الحديث. والثالث انها الجماع؛ فعلى هذا يجوز التيمم للجنب، ولا يكون ما دون الجماع ناقضاً للوضوء وهو مذهب أبي حنيفة {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً} هذا يفيد وجوب طلب الماء وهو مذهب مالك، خلافاً لأبي حنيفة فإن وجده بثمن فاختلف هل يجوز له التيمم أم لا، وإن وهب له فاختلف هل يلزم قبوله أم لا {فَتَيَمَّمُواْ} التيمم في اللغة: القصد، وفي الفقه: الطهارة بالتراب، وهو منقول من المعنى اللغوي {صَعِيداً طَيِّباً} الصعيد عند مالك هو وجه الأرض، كان تراباً أو رملاً أو حجارة فأجاز التيمم بذلك كله، وهو عند الشافعي التراب لا غير، والطيب هنا الطاهر. واختلف في التيمم بالمعادن كالذهب وبالملح وبالتراب المنقول كالمجعول في طبق، وبالآجر، وبالجص المطبوخ، وبالجدار، وبالنبات الذي على وجه الأرض، وذلك كله على الاختلاف في معنى الصعيد {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} لا يكون التيمم إلا في هذين العضوين، ويقدم الوجه على اليدين لظاهر الآية، وذلك على الندب عند مالك، ويستوعب الوجه بالمسح، وأما اليدان فاختلف هل يمسحهما إلى الكوعين، أو إلى المرفقين؟ ولفظ الآية محتمل، لأنه لم يحد، وقد احتج من قال إلى المرفقين بأن هذا مطلق، فيحمل على المقيّد، وهو تحديدها في الضوء بالمرفقين.

.تفسير الآية رقم (44):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)}
{الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} هم اليهود هنا، وفي الموضع الثاني قال السهيلي: فالموضع الأول نزل في رفاعة بن زيد بن التابوت، وفي الثاني نزل في كعب بن الأشرف {يَشْتَرُونَ الضلالة} عبارة عن إيثارهم الكفر على الإيمان، فالشراء مجاز كقوله: اشتروا الضلالة بالهدى وفي تكرار قوله: كفى بالله مبالغة.

.تفسير الآية رقم (46):

{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}
{مِّنَ الذين هَادُواْ} من راجعه إلى الذين أوتوا نصيباً، أو إلى أعدائكم، فهي بيان، وقال الفارسي: هي ابتداء كلام تقديره. من الذين هادوا قوم وقيل: هي متعلقة بنصيراً على قول الفارسي {يُحَرِّفُونَ الكلم} يحتمل تحريف اللفظ أو المعنى، وقيل: الكلم هنا التوراة، وقيل: كلام النبي صلى الله عليه وسلم {غَيْرَ مُسْمَعٍ} معناه: لا سمعت {راعنا} ذكر في [البقرة: 104] {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} عوض من قولهم: راعنا، وهو النظر أو الانتظار، فهذه الأشياء الثلاثة في مقابلة الأشياء الثلاثة التي ذمهم على قولها، لما فيها من سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنهم لو قالوا هذه الثلاثة الأخر عوضاً عن تلك: لكان خيراً لهم، فإن هذه ليس فيها سوء أدب.